تعد أسماء بنت أبي بكرا لصديق رضي الله عنها وعن أبيها من النماذج البارعة في تاريخ الإسلام، فقد عاشت في ظل الدعوة الإسلامية منذ نعومة أظفارها، وعرف الإيمان طريقه إلى قلبها منذ كانت طفلة صغيرة، وشاهدت تطور الدعوة وإنتقالها من طور إلى طور، بل وشاركت في صناعة الكثير من الأحداث، وحياتها رضي الله عنها مليئة بالمواقف وحافلة بالدروس والعظات التي يحتاج إليها النساء في عصرنا، بل ويحتاج إليها كثير من الرجال.
¤ دورها في الهجرة:
لعبت أسماء رضي الله عنها دورا كبيرا في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقد حملت إليهما ما يحتاجان إليه من الطعام والشراب وهما مختبئان في غار ثور ولما عزما على الإرتحال من الغار لم تجد ما تعلق به الطعام والماء في رحالهما، فشقت نطاقها وعلقت الطعام بنصفه وإنتطقت بالنصف الآخر، فسميت ذات النطاقين.
وقد نالها من الأذى ما نال غيرها من الرجال والنساء، ولكنها صبرت واحتسبت.
تقول رضي الله عنها: لَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه أَتَانَا نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فِيهِمْ أَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، فَوَقَفُوا عَلَى بَابِ أَبِي بَكْرٍ فَخَرَجْتُ إلَيْهِمْ فَقَالُوا: أَيْنَ أَبُوك يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ؟ قَالَتْ قُلْت: لَا أَدْرِي وَاَللّهِ أَيْنَ أَبِي؟ قَالَتْ: فَرَفَعَ أَبُو جَهْلٍ يَدَهُ وَكَانَ فَاحِشًا خَبِيثًا، فَلَطَمَ خَدّي لَطْمَةً طُرِحَ مِنْهَا قُرْطِي.
لقد وقفت رضي الله عنها عنها في وجه البغي والطغيان ولم تفش سر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا صاحبه، ويا له من درس رائع للنساء المسلمات في كل مكان وفي كل عصر، وما أجمل ما قاله الإمام الماوردي: كتمان الأسرار من أقوى أسباب النجاح وأدوم أحوال الصلاح.
وكان لأسماء دور بارز في بيت أبيها حيث ترك أبو بكر رضي الله عنه أباه شيخاً كبيراً ضريراً، أي: أعمى، وخرج أبو بكر مهاجراً بكل ماله في سبيل الله، فقال أبو قحافة لأسماء: ماذا ترك لنا أبو بكر؟ فأخذت ظرفاً ملأته من الحجارة وحركته وقالت: ترك لنا هذا المال الكثير، فأراد الشيخ أن يحمل الظرف فإذا هو ثقيل: فقال: هذا مال كثير، فمن تركه لا عليه أن يسافر ويخاطر!. تقول أسماء: ولا والله ما ترك لنا شيئا، ولكني أردت أن اسكن الشيخ بذلك.
لقد هاجر أبو بكر رضي الله عنه في صحبة الحبيب المصطفى- صلى الله عليه وسلم- ولم يترك في بيته شيئا من متاع الدنيا، إلا أنه قد ترك لهم إيمانا لا تزلزله الجبال، ولا تحركه العواصف، ولا يتأثر بقلة أو كثرة المال، وورثهم يقينا بالله وثقة لا حد لها.
لقد إستخدمت رضي الله عنها فطنتها وعقلها لتستر أمر أبيها وتسكن قلب جدها الضرير وتخفف من حزنه ولوعته على ابنه المهاجر الذي كان يرعاه ويقوم على أمره وكلها ثقة أن الله عز وجل لن يضيعهم.
¤ دورها بعد الهجرة:
وبعد هجرتها كانت شخصاً فاعلاً في دعوة النساء في المدينة وتعليمهن، وكان نساء قريشٍ يعرفن الكتابة، وكان نساء الأنصار لا يعرفن الكتابة، فكان نساء المهاجرين يعلمن نساء الأنصار ما يتعلمن به القرآن من الكتابة، وكانت أسماء قد حفظت بعض القرآن قبل هجرتها فشرعت في تعليم نساء الأنصار أمور دينهن.
وكانت رضي الله عنها تسمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم فتحفظه وتعلمه غيرها.
قال النووي رحمه الله: رُوى لأسماء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة وخمسون حديثًا.
روى عنها عبد الله بن عباس، وابناها عبد الله وعروة، وعبد الله بن أبى مليكة، وغيرهم.
¤ قيامها بأمر بيتها:
ورغم إنشغالها رضي الله عنها بتعليم النساء وتفقيههن في أمور دينهن، إلا أنها لم تقصر في رعاية شؤون بيتها وخدمة زوجها الزبير بن العوام رضي الله عنه، فقد كانت رضي الله عنها تقوم بخدمة فرسه، تحمل النوى فوق رأسها وتعلفه وتسقيه، إذ لم يكن في بيتها خادم في ذلك الوقت، فقد كان الزبير لا يملك إلا فرسه وسيفه الذين يجاهد بهما.
كانت رضي الله عنها تخدم فرس الزبير وهي من هي في شرفها وعلو قدرها، وفي زمننا هذا تستنكف الكثير من النساء عن خدمة أزواجهن ورعاية أبنائهن، ويتركن هذه الأمور للخادمات.
¤ سخاؤها وحبها للبذل والإنفاق:
كانت رضي الله عنها من أكرم الناس وأجودهم، ومن حبها للعطاء لم يكن يثبت بيدها مال. جاء في تاريخ دمشق بإسناد مصنفه، عن أبى الزبير، قال: ما رأيت امرأتين قط أجود من عائشة وأسماء، وجودهما مختلف، أما عائشة فكانت تجمع الشيء إلى الشيء حتى إذا إجتمع عندها وضعته مواضعه، وأما أسماء فإنها كانت لا تدخر شيئًا لغد.
وفى طبقات ابن سعد بإسناد الصحيحين، عن فاطمة بنت المنذر، أن أسماء بنت أبى بكر كانت تمرض المرضى، فتعتق كل مملوك لها.
وكانت رضي الله عنها تقول لبناتها ولأهلها: أنفقوا وأنفقن وتصدقن لا تجدن فقده.
¤ جهادها في سبيل الله:
كانت رضي الله عنها من المجاهدات في سبيل الله، العاملات على إعلاء راية الإسلام، فقد شاركت رضي الله عنها في معركة اليرموك في عهد الخليفة عمر بن الخطاب جنبا إلى جنب مع زوجها الزبير بن العوام رضي الله عنه وبلغ من شجاعتها وإقدامها أنها قرنت عنانها بعنان زوجها فما كان يضرب إلا ضربت مثله.
إن الجهاد في سبيل الله غير قاصر على الرجال، فقد كان للنساء الكثير من البطولات على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما من غزوة من الغزوات إلا ولهن فيها ذكر.
¤ صبرها وثباتها:
كان ابنها عبد الله بن الزبير قد خرج على بني أمية وبايعه الناس في الحجاز والعراق على الخلافة ودارت بينه وبين بني أمية حروب، وقد لجأ رضي الله عنه إلى البيت الحرام، ولما رأى انه لا طاقة له بحرب بني أمية ذهب إلى أمه أسماء يستشيرها في الأمر فقال: كيف أصبحت يا أمه؟ قالت: إن في الموت لراحة، وما أحب أن أموت إلا بعد خلتين: إما أن قتلت فأحتسبك، أو ظفرت فقرت عيني، قال: يا أمه! إن هؤلاء قد أعطوني الأمان، فماذا تقولين؟ قالت: يا بني أنت أعلم بنفسك، إن كنت على حق وإليه تدعو، فلا تمكن عبيد بني أمية منك يتلاعبون بك، وإن كنت على غير الحق، فشأنك وما تريد، قال: يا أمه! إن الله ليعلم أني ما أردت إلا الحق، ولا طلبت غيره، ولا سعيت في ريبة قط، ثم قال: يا أمه! إني أخاف إن قتلني هؤلاء القوم أن يمثلوا بي، قالت: يا بني، إن الشاة لا تألم للسلخ إذا ذبحت، قال: الحمد لله الذي وفقك، وربط على قلبك! ثم نزل فقاتل حتى قتل.
وحُمل إلى الحجاج وهو مقتول، فقال: اصلبوه في الحِجَون، فصلبوه في الشمس ثم مرت أمه وهي عمياء يقودونها، فقالت: إذا وازيتُه فأقيموني، ووقفت وهي تبكي وتقول: سلام عليك يا بن حواري رسول الله! والله لقد كنت باراً في شبابك، مطيعاً في كدرك، عابداً في شيخوختك، فسلام الله عليك حتى ألقاك.
وقيل إن ابن عمر دخل معه عليها وابنها مصلوب فقال لها: إن هذا الجسد ليس بشيء وإنما الأرواح عند الله فإتقي الله وإصبري، فقالت: وما يمنعني من الصبر وقد أُهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.
نِعْمَ الصابرة أسماء ونعم المحتسبة ونعم الأم ونعم المربية، فلقد ربت رجالا شجعانا لا يهابون الموت ولا يخشون الردى ما داموا على الحق، ألا فليتعلم نساؤنا كيف تكون التربية الحقيقية، فإن الأمة الإسلامية لن تنهض ولن تعود لسابق مجدها إلا بالتربية، وصدق الشاعر في قوله:
الأم مدرسة إذا أعددتها *** أعددت شعباً طيب الأعراق
الأم روض إن تعهده الحيا *** بالري أورق أيما إيراق
¤ وفاتها رضي الله عنها:
توفيت رضي الله عنها في العام الثالث والسبعين من الهجرة وقد عمرت دهرا صالحا وأضرت في آخر عمرها، وقد كانت وفاتها بعد مقتل ابنها عبد الله بقليل، وبلغت من العمر مائة سنة، ولم يسقط لها سن، ولم ينكر لها عقل رحمها الله.
من أقوالها رضي الله عنها: النكاح رق النساء، فلتنظر المرأة عند من تضع رقها.
الكاتب: جهلان إسماعيل.
المصدر: موقع المختار الإسلامي.